مختار الساتي عضو مبدع
العمر : 56 عدد المساهمات : 1921
اعلان ممول
| موضوع: يومٌ في اشبيلية الثلاثاء مايو 01, 2012 5:12 pm | |
| [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] وما أنْ رمانا القطار على رصيف المحطة حتى كانت أقدامنا تتسكّعُ في الشارع حيثُ مهرجان ضياء الشمس والريح الجامحة والبهاء الجليل. حملتنا سيارة ُ الاُجرة الى وسط المدينة. فمرقت من درب الى درب وعبرت بنا جسراً فوق نهر المدينة، وكلما توغلت بنا تضيقُ الطرقات المحفوفة بالأبواب والشرفات ذات الطراز المشرقي. تعلوها سنادين الورد والشجرُ المتسلقُ جدرانَها بالأسنان والأظافر. توقفت السيارةُ ونفحنا سائقها حقّه ودلنا باشارة من إصبعه الى مبتغانا. وحثثنا خُطانا في الأزقة ينقلنا زقاقٌ الى سواه. وبرغم ضيقه واكتظاظه بالدكاكين فإنّ الازدحام يعرقلك عن السير بحريّة. الأزقةُ تتلوى وتنكسرُ والدكاكين معبأة بالتحف والرسوم والملابس والقلائد والأسورة والساعات. وحيثما سرتَ تسمع لغاتٍ تجهلها، ووجوهاً جاءت من أقصى مدائن الشرق حتى أقاصي القارتين الأمريكيتين. وحواليك تتبعثر المقاهي والكافتريات وفوهات أبواب، تقدّم الأكلات السريعة والآيس كريم والقهوة. وإذْ انتقلتَ من مكان الى آخرَ تُرافقكَ المتعة ُوالدهشة ُ والانبهار. كأنّك تجتابُ دروبَ التأريخ والمدائن الشرقية في الموصل أو حلب أو بغداد أو البصرة أو شيراز واصفهان. لكنْ بايقاع الصخب والزحام والنظافة. ويأخذك الدربُ الضيقُ الى ساحة مشجرة تصب فيها بضعة ُ أزقة. وثمة َ أشجار خرافية عملاقة مرّت باشواط عمرية تعدّ بالقرون. وألوان زهور لم ترَعينُك مثلها. أخيراً ولجتْ أقدامُنا ساحة، بل ساحات تتّصلُ أبعاضُها بالبعض. جدرانٌ صخرية سامقة، أبراجٌ ومنائرُ تنطحُ السماء. أنصابٌ في أعالي الأبراج منغرسة في الجدران، مقرنصاتٌ وزخارف وابوابٌ اسطورية، وبشرٌ قدموا من وراء البحار والمحيطات. ومن كثرة النظر ورفع الرأس الى السماء تُحسّ بوجع الرقبة والصداع. بقعٌ تنامُ تحت ضياء الشمس وأخرى تهجع في الظل ولما تزل الريحُ تلعبُ هنا وهناك. أبنية ٌ اسطورية تتسامقُ حواليك، وأسوارٌ تستقرّ في روع الزمن. ما زالت الكاميراتُ / كاميرتنا وعشراتٌ اُخرى / تلتقطُ صور الأبراج والجدران والتماثيل. [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] والناس يسيلون في المكان ويخرجون الى أمكنة أخرى. وبين اللحظة واللحظة نتوقفُ لنلتقط َ صورة نُخلد فيها هذا المرأى وذاك المشهد. الهي من أين جاء كلُّ هؤلاء الناسُ وأين يثوون لياليهم ؟ وتقطعُ أقدامُنا الحارات المشرقية، تشرئبُ علينا النوافذُ الملونة والشرفاتُ المكتظة بالورد. فيضيقُ بك الزقاقُ حتى تكاد النوافذُ والشرفاتُ تلتقي فوق رأسك. ثمّ ينحرف بك يميناً أويساراً ليصبّ في ساحة اخرى تزدحم أطرافُها بالعمائر والمنائر والأسوار. ثمة لم يزلِ المجدُ العربي يتسكعُ ويتسوّلُ ويبكي على بقاياه التي حفظتها عناية ُ الدولة. أنا لستُ ممّن يُمجّدون الماضي ولا ألتفتُ اليه. بل أرسخُ قناعاتي في المستقبل. ولن أقول كان لنا...... وانما نبذل الجهد لنكون في قاع المستقبل. هنا أيضاً موئلٌ آخر للسائحين يتطلعون في الأبواب الاُسطورية العملاقة وفي الزخارف والنمنمات بأشكال نجوم وأهلة وزوايا وإنكسارات، وكذاالتماثيل المكتظة على الجدران وفوق أقواس الأبواب. ولجنا بوابة تُفضي الى باحة حواليها أعمدة ٌ وأقواس وتحتها أبواب موصدة كما لو كان مسجداً. تتخللها ضحكاتُ وكركرات ولغو أطفال المدارس جيء بهم ليتعرّفوا التأريخ الجاثم هنا. كنا نروم الخروج من منفذ ثانٍ الى بقعة اُخرى، لكنْ ثمة حرّاسٌ يمنعون الدخول. البوابة ُ تقذف بأناس الى الباحة وحسبُ. عدنا من حيثُ أتينا. وما أن صرنا في الساحة حتى رأيتُه............................ رأيته بعيني.. انه دون كيخوتة الفارسُ الاُسطوري المخبول الذي قرأته بالإنجليزية في منتصف خمسينيات القرن الماضي أيام المرحلة الأخيرة في الإعدادية مع كتاب آخر / بلاد العميان / من تأليف ه. ج. ويلز. لكنه الآنَ من دون تابعه شانسو. يرتدي دروعاً رصاصية باهتة، حاملاً رمحاً قصيراً وواقفاً على دكة بنفس لون ثيابه. كان شامخَ الجبهة تعلوه مسحة ُ أنفة وكبرياء. ويلتمُّ حوله جمعٌ يلتقطون له صوراً ينظرون اليه ولا ينظرُ اليهم.ويرمون في وعاء مربع نقوداً. لم يكن الدونُ ههنا ذلك الفارس العبثي الذي حارب طواحين الهواء وجندلها أو جندلتْه، بل مجرّدُ متسوّل يستجدي العابرين. [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] لم يكن الدونُ ههنا ذلك الفارس العبثي الذي حارب طواحين الهواء وجندلها أو جندلتْه، بل مجرّدُ متسوّل يستجدي العابرين. انه محضُ تمثال آدمي ينظر يميناً ويتعبُ ليستديرَ يساراً ويتعب ثمّ ينظر الى الأمام. وهكذا يظلُّ يتحايلُ على التعب والملل. لكنّ وقفتَه لاتخلو من درامية الممثل : الجسدُ والنظرة والوقفة ُ الحازمة. وجذبُ أنظار السيّاح عدتُه التسوّلية. قلتُ لإبني التقطْ لي صورة بصحبته ففعل، قبل ذلك رميتُ قطعة نقد في الوعاء المرمي أمامه فما أكترثَ بي ولاانحنى ليرى كم وضعتُ من النقود ولا تطلع اليّ ليشكرني. بل ظلّ متشبثاً بكبريائه وحماقته. كان الناسُ مسرورين بوجوده وكان سعيداً بأداء دوره. تركتُه ليأخذ شخصٌ آخر مكاني يلتقط صورة ً معه. أثناء ذلك تداعت بي أفكاري الى رواية ثرفانتس ذات الأجزاء الأربعة التي قرأتها بالعربية وتذكرتُ كلّ التفصيلات كما لو عشتُ حلماً من أحلامي. ثمّ تجوّلنا حتى كلت أقدامُنا. نعبرُ من مكان الى مكان ونجتاز زقاقاً وزقاقاً. وكل زقاق مملكة ٌ لها كينونتها. ونسيتُ نفسي كأني بي اجري في دروب البصرة القديمة أو في أزقة قلعة كركوك أو في محلة جقور او القورية أو في دروب منطقة الحيدرخانة والعاقولية وجديد حسن باشا في بغداد، الأماكن توائم أينما كانت، في مشرق الأرض أو في مغربها. ما أكثر الأزقة الحلمية في ذي المدينة. ما ألطفَ اُناسيها وما ألذّ طعامَها وقهوتَها ذات الطابع العربي وما أجملَ أزقتَها ودروبها الضيّقة المُزدانة بالحلم الماضوي والطفولي ورعشات أيام اليفاعة التي عادت اليّ ثانية. أنا هنا وسط أشبيلية وأمكنة اُخرى. ومن خلال غشياننا الدروب وصلنا الى مركز رقصة الفلامنكو التي ليست زلزالاً ولا طوفاناً ولا هزّة ً أرضية.بل مهرجان الجسد والموسيقى. المركزُ مفتوحُ في الواحدة ظهراً جلسنا في القاعة الفارغة الّا من بضعة أشخاص، وكانت على ميمنتنا فسحة ٌ تجري فيها البروفات، الجدارُ الخلفي مرأة ٌ كبيرة، وثمة خمسُ مُتدرباتٍ ومعلم ٌ يقفُ قبالتهن إنه يرقص ويدقّ بلاط الخشب برجليه ويفعلنَ مثله، فيعلو هديرٌ ودمدمة مُنسّقان وحركات الأجساد من شعر الرأس حتى كعبي الحذائين. جسدٌ يغنّي يتحرّك يتموسقُ يلتوي عبر الذراعين والكتفين والبطن والخصر والردفين والساقين حتى الحذائين وهما يطرقان الأرض مع صدح الموسيقى. الفلامنكو ليست رقصاً مبهرجاً سوقياً، انه طقسٌ صوفيّ قدسي يمنح فيه الجسدُ الآخرين فلسفة الحركة ولغة الآدمي من دون كلام، ويسوق اليه امناً أشبهَ بالحلم الجميل الذي يُفيقُ بعده وهوفي كامل راحته النفسية. كان المعلمُ بارعاً وخفيفاً كما لو كان نسمة. والمرآة ُالعريضة تُضاعف عدد الراقصات. ومصدرُ الزلزال الذي يقضُّ مضجع القاعة هو الأقدام التي تنطقُ وتُطلقُ أصواتاً ايقاعية، كلّ ايقاع لغة ٌ واشارة ٌ ومعني . تختلف الفلامنكو عن رقصنا المشرقي المُحتفي بجدل الغريزة واشعال فتنتها. [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] وهي هنا احتفاءً بقدسية الجسد ولغتها الانسيابية المعبّرة عن الفرح والشجن. كما أنّ الموسيقى صوفية مثل موسيقى حلقات الدروشة تبدأ متباطئة ثمّ ترتفع وتتمادى وتتماهى حدّ العشق الإلهي. الفلامنكو طوفان يجري بك ويأخذك الى مهاوي الفرح والتصوّف.والراقصة ُ والراقصُ زوجان من الزنابق أو طائران من أطيار القبج الكردي يلوبان برفقة هدير الأقدام كما لو كانا باقة أزهار تنطقُ وتدور. كنتُ أتمنى لوأشاهدُها على الصالة المخصّصة لها لا على قاعة التدريب. الا أنّ الوقتَ له حاجاته القصوى. الحفلُ يبدأ في السابعة مساء، وعلينا أن نكون في محطة القطار السريع في السادسة. لكنّ جلستنا التي استغرقت أكثر من عشرين دقيقة أمام البروفات أعطتني ما يلزم لهذه الكتابة. عدنا مساءً بعد جولة سريعة في وسط أشبيلية الى ملقا. وما زالت ذاكرتي تفورُ بصور التقطتها هنا وهناك في هذه المدينة التي تحتفي بالتأريخ العربي وتضعه أمام السائح في حاضره الساخن.
مختار الساتي; توقيع العضو | |
|
|